(اختر المقطع الذي تريد سماعه ثم اضغط على استمع)
ثلاث سنوات على انفجار مرفأ بيروت: الجرحى المعوقون إن حكوا...
نغم شرف
كان الانفجار أسوء ما قد يحدث لشعب بأكمله، وحتّى اللحظة تبدو كتابة هذه الكلمات عبثا أمام الحقيقة التي لم نتمكّن من استيعابها، وذلك ربّما لأنها أكبر من قدرتنا على التحمّل.
كنّا في بيروت، والأخيرة انفجرت. كلّنا حملنا بعد الانفجار إصابات سترافقنا طوال العمر، أبرزها الصدمة النفسية التي تجعلنا نختبئ كلّما سمعنا صوتاً قوياً لا نعرف مصدره. هناك أيضاً من سيحدّون للأبد على أحبّائهم الذين قتلوا، وهناك من يحملون حتى اليوم آثار الانفجار الجسدية بعدما أصيبوا بإعاقات حركية وحسيّة غيّرت كل حياتهم، تحديدا في بلد غير مجهّز مثل لبنان.
حاولنا في الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً أن ننقل قصص جرحى الانفجار الذين أصيبوا بإعاقات حركية كي يدرك الرأي العام فداحة ما حصل.
كانت المقابلة الأولى مع عبد الرحمان بشنّاتي في منزله الصغير المستأجر في مخيّم برج البراجنة، كان حزيناً جداً ومكتئباً جداً تحديداً أنه فقد قدرته على التنقل بالتالي خسر قدرته الانتاجية. جلس عبد قرب الزاوية، شربنا القهوة وأخبرني كل قصّته. في نهاية المقابلة التقطت صورته التي لم يبتسم فيها فورا لكنّه أعادها وحاول الابتسام. بعد أشهر قليلة على إجراء المقابلة خسر عبد حياته بسبب مضاعفات إصابته الناتجة عن انفجار المرفأ تاركاً خلفه بناته الثلاث.
ولذلك نبدأ بقصّته:
عبد الرحمن بشنّاتي (47 عامًا) – أصيب بإعاقة حركية بسبب انفجار مرفأ بيروت
أطلق الاتحاد اللبناني للأشخاص العوقين حركياً برنامج الاغاثة لمساعدة الأشخاص المتضررين من انفجار المرفأ، والذي قدّم أشكالًا مختلفة من الدعم للأشخاص ذوي الإعاقة المتضررين من انفجار مرفأ بيروت وأيضاً للأشخاص الذين أصيبوا بإعاقة بسبب الانفجار.
عبد الرحمن بشناتي
“عملت بائع قهوة متجوّلًا في منطقة الباشورة وتطوّعت في الدفاع المدني اللّبناني لسنوات طويلة قبل وقوع انفجار مرفأ بيروت.
في الرابع من آب، حين وصلنا خبر اندلاع الحريق جهزّت نفسي للانطلاق مع زملائي، لكنّي لم أصل إلى وجهتي. أذكر وقوفي على مقربة من النافذة والخزانة الخشبية، وأذكر كيف انتشلوني من تحت الحطام حيث علقت ساقي اليسرى. بعد أيام معدودة، سيطر اللون الأزرق على ساقي وتبيّن أنها أصيبت بالغرغرينا، وبهدف الحفاظ على حياتي خضعت لعملية بتر.
فيما غابت الدولة عن تأمين احتياجاتي أو حتّى تعويضي، بُترت ساقي، أصبحتُ عاطلًا عن العمل معتمداً على المساعدات الشهرية. انعزلت اجتماعيًا لعدم تمكّني من التنقّل باستقلالية في بيروت أو حتّى داخل منزلي المستأجر في مخيم برج البراجنة، وساءت حالتي الصحية لدرجة أنّي محتاج لإجراء عملية قلب مفتوح لم يُحدّد موعدها لأن كلفتها تتخطّي الـ 40 مليون ليرة لبنانية.
على الرغم من كل ما حصل، تتجسد خسارتي الكبرى في أنّ حياتي كانت مليئة بالحركة والنشاط، أما الآن فتنحسر يومياتي في زاوية صغيرة مليئة بالروتين الذي لا ينكسر إلا حين يحل موعد مجيء بناتي الثلاث من دار الأيتام لزيارتي أسبوعيا”.
مازن حرب (يمين الصورة) يروي قصّة شقيقه الرّاحل إبراهيم حرب (35 عامًا)، الذي توفّي بسبب إصابته وإعاقته الناتجة عن انفجار المرفأ.
ضمن برنامج الاغاثة تلبية الاحتياجات الطبية للأشخاص ذوي الإعاقات المختلفة الناتجة عن الانفجار. بالإضافة إلى العمليات الجراحية المطلوبة، ومستلزمات الطعام، ومستلزمات النظافة، والعناية الشخصية ، والمساعدة المادية
مازن حرب
“هاتفته فلم يردّ. بعد عدّة محاولات جاء صوت زميلته ليعلمني أنه مصاب. هرعت إلى مكتبه في وسط المدينة وهناك وجدته على الأرض ويده تتحرّك. إبراهيم شقيقي الذي يصغرني بـ 14 عامًا، وقد ربّيته حين كان والدنا يعمل في الخارج كي يعيلنا.
نقلت إبراهيم فورًا من المكتب إلى المستشفى، حيث أُجريت له العملية الأولى بعدما تبيّن تعرّضه لنزيف في الدماغ. بعد أسبوع، اكتشف الأطبّاء أن كل عظام وجهه مكسورة، فأجريت له عملية ترميم. دخلت إلى الغرفة بعد انتهاء العملية لكي أتفقّده فلم أجده سألت الممرّضة: “أين إبراهيم؟ ليس هنا” جاءت إجابتها: “هذا هو إبراهيم”. لم أعرفه بسبب الورم الطاغي على وجهه ورأسه.
طوال تلك المدّة كان إبراهيم غائبًا عن الوعي، فثقبت حنجرته كي يتنفّس، ومدّ أنبوب من معدته كي يتغذّى جسده بالسوائل. بعد ثلاثة أشهر استعاد جسد إبراهيم وعيه، إلا أن جسمه لم يكن قادرًا على تلبية احتياجاته وخسر قدرته على التواصل مع العالم الخارجي.
نقلنا إبراهيم إلى مركز تأهيل متخصص لمدة سنة، وهناك عادت الحركة إلى يديه، وتمكّن أحيانًا من نطق كلمات محدّدة. استعاد القليل من إدراكه وعاد ليتنفّس بمفرده على الرغم من إصابته بفيروس كورونا. أثناء تلك السنة اكتشفنا أنه بالإضافة إلى إصابته هناك ثقب في سقف حلقه ناتج عن الانفجار، فأجريت له عملية. من بعدها أصبح قادرًا على تناول أنواع محدّدة من الأطعمة.
كان من المقرّر أن يحتفل ابراهيم بحفل زفافه في شهر أيلول من العام 2020. في 25 أيلول من العام 2021، أخرجنا إبراهيم من المركز وأعدناه إلى منزل العائلة في منطقة بشارة الخوري. إبراهيم يقيم على الطابق الخامس، وأنا وعائلتي على الطابق السادس. وكما كنت أفعل قبل الانفجار، أزوره يوميًا أتفقّد أحواله، وأراقبه أثناء جلوسه بيننا.
صباح 28 أيلول لاحظنا ارتفاع حرارته، وبسبب تفشّي وباء كورونا لم نتمكّن من تأمين سيارة تنقله إلى المستشفى. حوالي الساعة السابعة مساءً حين عاد التيّار الكهربائي إلى المبنى، أنزلته من الشقّة وتولّيت أمر نقله بنفسي. فور وصولنا إلى الطوارئ فقد إبراهيم وعيه، حاولنا أن ننعشه لكنّنا خسرناه. في الواقع، لم يمت إبراهيم في 28 أيلول 2021، إذ أننا خسرناه منذ لحظة وقوع الانفجار. يومها، حين عثرت عليه سألت نفسي: “ماذا سأقول لوالدتنا؟”. يومها خسرنا شخصه، جسده، ذكرياته ومستقبله. وحتّي اللّحظة لا أجد ما أقوله أو ما يعزّينا”.
مريم حجازي
“كنت في العاشرة من عمري حين أخذني والدي إلى منطقة الحمراء في بيروت لتفقّد منزل صديقه والتأكّد من عدم حدوث أضرار ناتجة عن الحرب الأهلية القائمة. أثناء وجودنا، هناك اندلعت معركة في الشارع أدّت إلى سقوط قذيفة داخل المنزل. نُقلت يومها إلى المستشفى، وبعد إصابتي بمدّة قصيرة دخلت في غيبوبة لمدّة ثلاثة أشهر. بعدما استيقظت اكتشف الأطبّاء أنني مصابة بمرض السكري.
بعد 42 عامًا، دفعتني حشريتي للخروج إلى شرفة منزل شقيقتي الواقع في منطقة خندق الغميق، لمشاهدة الدخان المنبعث من مرفأ بيروت. بعد دقائق، طار جسدي إلى داخل المنزل. في ذلك اليوم، في الرابع من آب، خسرت عيني اليمنى بالكامل، وتضرّرت عيني اليسرى.
اليوم، أنا امرأة مطلّقة في الرابعة والخمسين من عمري، وأم لأربع فتيات. لا أستطيع أن أكون منتجة لأن كل المشاهد التي أراها أمامي ليست واضحة، كما أن أعصاب يدي اليمنى تضرّرت وأحتاج إلى عملية جراحية بهدف ترميمها. لا أرى وجوه الأشخاص الذين أصادفهم، ولا يمكنني قراءة الأحرف والأرقام كما كنت أفعل في السابق، وحين تنقطع الكهرباء لا يمكنني التنقّل داخل المنزل بدون مساعدة من بناتي. أما الخروج إلى الشارع بعد غروب الشمس فهو أمر مستحيل، لأن العتمة المسيطرة تعيق حركتي بالكامل.
تلقّيت مساعدات نفسية وماديّة من جميعات عدّة، وتكفّلت الوزارة بإجراء عمليتي الجراحية وتركيب عين اصطناعية لي أضعها حين أخرج. لكن هذه التفاصيل لا تكفي، فأنا بحاجة إلى تعويض مادّي من الدولة يضمن لي تربية بناتي بكرامة خصوصًا أن العبء يقع على عاتق ابنتي الكبرى.
تتمثّل أزمتي الأساسية حاليًا بالمنزل المستأجر الذي أقطنه. أنظري إليه، انظري كيف تتسرّب الماء من سقفه إلى أرضه. قبل مدّة أعلمنا صاحبه بضرورة إخلائه. وأنا اليوم، في ظل الانهيار الاقتصادي والغلاء المعيشي وحالتي الصحيّة، أبحث عن شقّة قابلة للسكن بهدف الانتقال إليها مع بناتي”.
مريم حجازي (54 عامًا) – أم مطلّقة لديها أربع فتيات، أصيبت بإعاقة بصرية بسبب انفجار بيروت.
دعم برنامج الإغاثة الذي أطلقه الاتحاد الأشخاص ذوي الإعاقة من خلال جلسات الدعم النفسي والمنح العينية التي ساعدت على تطوير مشاريعهم الإنتاجية وضمان استقلالهم المالي.
حنان بظاظة (28 عامًا) – أصيبت بإعاقة حركية بسبب انفجار المرفأ وشهدت وفاة كل من شقيقتها ملاك بظاظة وصهرها علي أيوب.
تُظهر الصورة الثانية كلًّا من حنان، والدتها، ملاك وعلي قبل وقوع الانفجار بنصف ساعة.
حنان بظاظة
“كان يومًا عاديًا، أنهيت خلاله تقديم امتحاناتي الجامعية وتوجّهت من بعدها إلى مطعم في منطقة الجمّيزة حيث جلست بجانب شقيقتي ملاك وزوجها علي ووالدتي، وقبل أن يُحضر النادل أطباق الحلوى التقطنا صورتنا الأخيرة.
سمعت الصوت، أغمضت عينيّ ووجدت نفسي مرمية على الأرض غير قادرة على النهوض. في سيارة المرأة الغريبة التي نقلتنا إلى أقرب سيارة إسعاف رأيت ملاك بعينين شبه مفتوحتين وجسد ملطّخ بالدماء.
حين وصلت المستشفى ظننت أنها معي. وبسبب حالتي الصحيّة وضرورة إجراء لعملية جراحية مستعجلة لي، لم يعلموني بالحقيقة. كنا قد أضعنا ملاك ولم نعلم إلى أي مستشفى نُقلت إلى أن تعرّف شقيقي على جثّتها في اليوم التالي. أمّا علي، فبقي على أرض المطعم إلى أن جاء إخوته ونقلوه إلى أقرب مستشفى وهناك فارق الحياة. علمت لاحقًا، أنّنا حين كنّا في السيارة كان جسد ملاك بلا نبض، ولذلك لم يضعوها في سيارة الإسعاف إذ كانت الأولية للجرحى.
أجريت لي العملية الجراحية الأولى وزُرعت أسياخ الحديد في فخذي ليتبيّن لاحقًا أن العملية فاشلة، فأعاد الأطباء كسر عظمة الفخذ وترميمها بطريقة صحيحة. العملية الثانية كلّفتني الكثير حيث إنّي مُنعت من السير لمدّة شهر والأوجاع الجسدية بقيت حاضرة. ولمن لم يختبر الشعور، بإمكاني القول إن الحياة صعبة من كل النواحي حين نخسر قدرتنا على التحرّك. وبالنسبة إلي لم يكن خيار الاستعانة بولكر (جهاز المشي) سهلاً فأنا أدرك كيف يوصم المجتمع الأفراد المعوّقين حركيًا.
يوم الرابع من آب خسرت شقيقتي ملاك وزوجها علي أيّوب، وما تبقّى منهما هو ذكرياتنا معهم، صورهم الموضوعة على الطاولة، ابنهما محمّد البالغ من العمر 5 سنوات وابنتهما لين البالغة من العمر 3 سنوات. أعلم أنه يومًا ما سأستعيد جزءًا من حياتي وسأتعافى نفسيًا ولو أن رحلة العلاج ستكون طويلة، وذلك لأن الصدمة طغت على كل شيء آخر لدرجة أنّني حتّى اللحظة أطرح على نفسي سؤالًا: كيف بقيتي عايشة”؟
قدّم برنامج الاغاثة: 120 عينة من المعقّمات، 150 معينات طبيّة، 450 أدوات صحية، كما أنه أمّن 15 عملية جراحية وأخضع 70 شخصاً للعلاج الفيزيائي، 70 للعلاج الانشغالي. وأحيل 60 للدعم النفسي الاجتماعي و200 للمتابعة الاجتماعية.
ضمن قطاع تحسين سبل العيش: أمّن البرنامج: 200 مساعدة مادية، 200 مساعدة غذائية، 128 بون لثياب Levis، 42 مشروع صغير
من ناحية البرنامج المطلبي/ درّبت الاتحاد 30 جمعية محلية ودولية وعقد الاجتماعات المطلبية والاجتماعات مع أصحاب القرارا التي رافقتها تحرّكات مطلبية.
قسّم المستفيدون من برنامج الاغاثة على الشكل التالي:
35,7%إناث،
63.5 ذكور،
0.8 غير محدّد
85.6% بيروت
11.8 بقاع
1.8 جبل لبنان
0.5 شمال
0.3 جنوب
92.6 يحملون/ن الجنسية اللبنانية
5.9 الجنسية السورية
1.2 الجنسية الفلسطينية
0.3 غير محدّد.
“يتطلّب مرض التصلّب اللويحي الكثير من الانتباه. فمنذ تشخيصه لديّ قبل سبع سنوات وأنا أداري جسدي من كل العوامل الخارجية، ألتزم بتناول أدويتي، أحمي نفسي من الحرارة المرتفعة أو المنخفضة، وأتجنّب الارتطام بكل شيء حولي.
كنت جالسًا أحتسي القهوة مع والدتي على سطح منزلنا المستأجر في منطقة مار مخايل حين سمعنا الانفجار الأوّل ورأينا الناس يختبئون. لم نسمع الانفجار الثاني لكنّنا شعرنا به. تقول والدتي إنّي فقدت وعيي وطرت إلى الناحية الأخرى من السطح.
منذ ذلك اليوم، تفاقم مرضي وفقدت قدرتي على السير بدون الاستعانة بالولكر (جهاز المشي). صرتُ بحاجة إلى عملية زرع مثانة خارجية تبلغ كلفتها نحو 180 مليون ليرة لبنانية. وأعاني من مشاكل والتهابات في الكلى، أدخل على إثرها إلى المستشفى أحيانًا لأسابيع. ونحن وحدنا من نتولى دفع الفواتير الطبية. لو كانت لدي دولة تستمع مطالبي لطالبتُ بالطبابة والأدوية، فقط لا غير.
كانت حياتي مليئة بالإنجازات التي أفتخر بها، كانت لدي القدرة على التحرّك والسفر، وتقبّلت وضعي الصحّي تمامًا. الآن، بعد الانفجار، أنا الذي أكره الجلوس داخل المنزل أصبحت حبيس الطابق الخامس الذي يفصلني عن الحياة في الخارج. خرجت مرّة واحدة خلال المدة الماضية. كان ذلك يوم 15 أيار حين توجّهت إلى مركز الاقتراع الذي لم يكن مجهّزَا لاستقبالي، فحُملت من قبل قوى الأمن إلى الطابق الثاني كي أمارس حقّي بالانتخاب.
الآن، أثناء حديثنا، سيكون قد مضى ثلاثة أيام على آخر مرّة سرت فيها، والسبب هو انقطاع أدويتي من الصيدليات وعدم تأمين الوزارة أدوية الأمراض المستعصية. والآن أيضًا، أخوض مع عائلتي عملية بحث منهكة عن شقّة أرضية للإيجار بسعر مقبول، بعدما أعلمنا صاحب المنزل بضرورة إخلائه”.
داني سلامة (37 عامًا) مهندس صوت، تدهورت حالته الصحية بسبب انفجار المرفأ.