(اختر المقطع الذي تريد سماعه ثم اضغط على استمع)

دفاعًا عن الكلمة المكتوبة.. لماذا؟

لعبت الصحافة الاجتماعية المتخصصة دورًا أساسيًا في نقل القضايا الاجتماعية المحقة من التهميش إلى العلن. أي أنها ساهمت في مرحلتها المكتوبة، بنسبة معتبرة، في كسر الصورة النمطية المتوارثة حول القضايا الاجتماعية، إلى جانب النضال المتواصل لأصحاب القضايا في نصرة قضاياهم والدفاع عنها.

ولا يمكننا تصور العقود الماضية، وتحديدًا بين سبيعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الجديدة، من دون جهود الصحافيون المتخصصون في حقوق المرأة والطفل والشباب والأشخاص المعوقين في الصحافة العامة (يومية ودورية)، بالإضافة إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والبيئة بشكل عام.

 

ثم أتى دور المنظمات الحقوقية والمطلبية لتحمل عبء نشر الوعي تجاه حقوق الشريحة، وقد تصدر “اتحاد المقعدين اللبنانيين”  هذه المرحلة بإنشائه الوحدة الإعلامية عام 2001، بعد عقد من المخيمات التدريبية الحقوقية التي نظمها الاتحاد، وصراع لمرور التشريع المتعلق بحقوق الأشخاص المعوقين في مجلسي النواب والوزراء، وقد توج بصدور القانون 220/2000. وهكذا أصدر الاتحاد مجلة “واو”، التي حملت قضايا الإعاقة كما يراها أصحابها إلى الرأي العام عامة، وإلى أصحاب القضايا الاجتماعية الأخرى على وجه خاص، من جهة، وحملت تلك القضايا الاجتماعية إلى الأشخاص المعوقين من جهة أخرى. قطعت الصحافة الاجتماعية المتخصصة، ولاسيما “مجلة واو” نصف الطريق باتجاه الصحافة العامة والرأي العام اللبناني، وعبرت عن الأشخاص المعوقين بلغتهم وعلى طريقتهم.

إلا أن تلك المرحلة انتهت بفعل الصحافة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي بعد عام 2007، لاسيما موقع “فايسبوك” الذي حظي ولا يزال بشعبية كبيرة في لبنان، وحل في مرتبة لم ينازعه عليها أي موقع تواصل اجتماعي آخر لعقد من الزمن. بات كل مستخدم لهذه المواقع صحافيًا ينقل الصورة والفيديو بغض النظر عن قدراته ومهاراته، ثم مع ظهور الهواتف الذكية والتطبيقات المختلفة، والجيل الجديد من التطبيقات الذي يتيح الاتصال الكتابي والسمعي والبصري والنقل السريع للمحتوى “فلت الملق”. ولم يعد بإمكان المتلقي العادي تمييز ما هو خبر صحيح عن أي مادة ملفقة، وفاضت الشبكة العنكبوتية بكم هائل من الأفكار المغلوطة والمواد المضللة الصادرة عن أفراد وجهات همّها الانتشار والشهرة والحصول على “اللايكات”، ولا يخفى أن هذه التفاهات “الجاذبة” تزاحم المواد الرصينة وتهزمها من حيث الكمّ، ومن حيث استحسان “الجمهور” لأي مادة مثيرة.

قد يكون من المبكر لأوانه دراسة الأثر الإيجابي في لتطبيقات التواصل، التي فتحت الباب أمام المنظمات المطلبية والحقوقية في الانفتاح على جمهور واسع وإيصال أفكارها إليه في خضم هذا البحر من المعلومات. إلا أن ما نعرفه جيدًا أن الاختراقات الفعلية على صعيد الحقوق ضئيلة جدًا. إذ إن حركة الإعاقة لم تحقق إنجازات تذكر على صعيد الوصول إلى الدمج الاقتصادي والاجتماعي للأشخاص المعوقين في لبنان بل كل ما أنجز هو بعض التقدم في ملفات متفرقة، فيما فقدت هذه المنظمات صحافتها الاجتماعية المتخصصة، في الوقت نفسه.

وهذه مسألة خطيرة للغاية. لماذا؟

إلى جانب المحتوى المقولب وفق ما يقتضيه التطور الإلكتروني والتطبيقات المختلفة (واتساب، انستغرام، تيك توك،…)، ينبغي الحفاظ على النص المكتوب بالصيغة التقليدية (الالكتروني على الأقل) لكون النوع الأول من الإدراجات المختلفة لا يراعي المعايير الصحافية من جهة ولا يراكم المواد في الملفات المختلفة من جهة أخرى.

اعتبرت الصحافة الاجتماعية المتخصصة مرجعًا في قضايا الإعاقة، كما في القضايا الاجتماعية الأخرى، وذلك لكونها مهنية وهادفة إلى جانب كونها متخصصة. وتعتبر المواد التي نشرت (النص، الصورة) من المراجع الموثوقة التي يمكن الركون إليها عند دراسة مرحلة صدورها. أما المواد المتناقلة، فعدا عن كونها لا تلتزم بالمعايير المهنية بنسبة كبيرة منها، لا يمكن للباحث الركون إليها كمراجع.

لعل الأخطر أن القوانين لم تطبق في لبنان، ولم تتحول مراحل النضال المختلفة إلى تاريخ مكانه الأرشيف، بل ما زالت المسيرة متواصلة، منذ أربعة عقود ونيف إلى اليوم. وذلك يعني أن عدم توثيق المرحلة الحالية (بالطريقة عينها التي كانت) عبر نصوص وصور ووثائق قد يحدث فجوة في ذاكرة أصحاب القضية أنفسهم ويؤثر بشكل كبير على مواصلتهم الطريق…

أثبتت السنوات الخمس عشرة الماضية أن أصحاب القضايا الاجتماعية لا يمكنهم الاستغناء عن النص المكتوب (المطبوع والالكتروني) للتعبير عن قضاياهم، والمراكمة، والعودة إلى المواد النصية الماضية لتطويرها والتقدم إلى الأمام. فإذا كانت هذه ضرورة فلا بد من ضمان استمرارية العمل على إنتاج مواد صحافية متخصصة في القضايا الاجتماعية في الأنواع الصحافية التقليدية بدءًا من الخبر إلى إعداد ملفات متكاملة في مسائل محددة. بطبيعة الحال، إن سلوك هذا الطريق ليس سهلا في الزمن الرقمي، ويبدو لكثيرين أن الزمن عفا عنه، لكن لا سبيل إلى التأثير الفعلي المبني على التراكم إلا عبر إعادة الاعتبار إلى النص المكتوب في قضايا الإعاقة من منظور حقوقي بالتوازي مع صدور كل أشكال “المحتوى” الذي يترك تأثيرًا مؤقتًا على المتلقين.