العنف ضد الفتيات والنساء المعوقات... بكلماتهن

نغم شرف

تأتي أخبار تعرّض النساء والفتيات للتعنيف لتفاجئنا على الرغم من تكرارها، وكأنها المرة الأولى التي نسمع فيها، إن كان من خلال الأخبار الرسمية التي تنشر عبر وسائل الاعلام أو تلك التي تُتداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من حملات التوعية الواسعة التي تطال الرأي العام بهدف مواجهة جميع أنواع التعنيف ومحاسبة المعنّفين، تبقى قصص النساء المعوّقات حركياً وحسياً غائبة عن الواجهة، وذلك لأن المرأة المعوّقة ما زالت غير مرئية حتى في الصراع النسوى العام.  

نشر الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً ثماني قصص تعكس مختلف أنواع العنف الذي تتعرّض له النساء المعوقّات، جاءت هذه القصص ضمن حملة الستة عشر يومًا من النشاط لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وهي حملة سنوية تبدأ في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر، اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، وتنتهي يوم 10 كانون الأول/ ديسمبر، يوم حقوق الإنسان.

بحسب هيئة الأمم المتّحدة للمرأة: “تتعرض أكثر من امرأة من كل ثلاث نساء للعنف القائم على النوع الاجتماعي خلال حياتهن. في عام 2021، تزوجت واحدة من كل خمس نساء تتراوح أعمارهن بين 20 و24 عامًا قبل أن يبلغن 18 عامًا. أقل من 40 في المائة من النساء اللاتي يتعرضن للعنف يطلبن مساعدة أي نوع. وبحسب الأدلّة، المحرك الأساسي لتغيير السياسات هو التعبئة النسائية القوية والمستقلة، مما يجعل هذه التعبئة النسوية في مواجهة رد الفعل العنيف المناهض للحقوق مسألة حياة أو موت”. بالتالي من الضروري أن تمارس النساء فعل البوح الآمن كي تخرج قصصهنّ إلى الواقع بهدف تغييره.

نشارككم، هنا، حكايات ثماني نساء وفتيات معوّقات قرّرن ممارسة فعل البوح والحفاظ على سرية هويّتهنّ كي يضمنّ بقاءهنّ على قيد الحياة.

"جسدك معوق ولا فائدة منك..."

“فُرضت العلاقة الجنسية الأولى حين كنت في الثانية عشرة من عمري، حينها كان والدي مدمناً على الكحول وحاول أن يغتصبني. استطعت أن أتهرب منه قدر المستطاع لكن الاعتداء استمر. حاولت أن أبلّغ الجهات الأمنية المسؤولة تحديداً أنني كنت مدركة لما يحصل، لكن بدلاً من إلقاء القبض عليه ألقي القبض علي، وهدّدت بعدم ذكر حادثة الاغتصاب مجدّداً.

لطالما استخفّت عائلتي بي بسبب إعاقتي، وعلى الرغم من تفوّقي الدراسي إلا أن الاستهزاء كان مستمراً من القريب ومن الغريب. وبسبب إعاقتي لطالما أرادت عائلتي أن تتخلّص منّي، وهكذا قرّرت والدتي أن تزوّجني بعمر 13 عاماً. دام الزواج 9 أشهر، اكتشفت خلالها أن عائلة زوجي تعمل في مجال العمل الجنسي. حين رفضت العمل في المنازل فرض عليّ أن أعمل كراقصة تعرّ في نادي ليلي. في الحقيقة، أمّنت لي إعاقتي الحركية في رجلي نوعاً من الحماية المبطّنة بالشفقة، فلم أتعرّض للكثير من المضايقات، وكان صاحب الملهى جيّدا معي وساعدني على العودة إلى المدرسة. وهكذا كنت أجلس على مقاعد الدراسة خلال ساعات النهار وأرقص على المسرح طوال ساعات الليل.

كنت طفلة أعيش في بيئة تريدني أن أصبح امرأة بهدف الربح المادي فقط لا غير. في إحدى المرّات قال لي أحد أفراد عائلة زوجي: “جسدك معوّق ولا فائدة منه، الحل الوحيد هو أن تعملي معنا كي نربح من خلاله القليل من المال”. تابعت العمل في النادي الليلي بعد طلاقي لمدّة ست سنوات، وهكذا تمكّنت من الاستقلال مادياً الدخول إلى الجامعة استئجار غرفتي الخاصّة الحصول على وظيفة جيّدة وشق مسار جديد في حياتي.

اليوم بعد مرور أكثر من 20 عاماً، لا يزال العنف حاضراً في حياتي، فالحلقة ما لم نكسرها أو نسلخها من جذورها تستمر وتكبر معنا، حاولت قدر المستطاع أن أنسى، وحتّى أن أسامح، لكن الكثير من الخيارات اللاواعية التي اتّخذتها مرتبطة بطفولتي وتاريخي العنيف كفتاة قاصر لم تحظ بالحماية اللازمة. أحاول قدر الإمكان في الحاضر أن أحمي أطفالي، وأن أتخلّص من ذكرياتي، لكن مجدّداً، وأنا الآن أتكلّم كامرأة معوّقة، أقول إنّ حلقة العنف تطاردني”.

أحاول أن أعيد صياغة حياتي...

“أبلغ من العمر 22 عاماً، وخضت ثلاث زيجات مختلفة انتهت كلّها بالطلاق. كنت أبلغ من العمر 16 عاماً حين قررت عائلتي التخلّص منّي. جاءت عائلة طليقي، وطلبت يدي من والدي الذي في البداية حاول أن يقنعني بالزواج عبر شراء الملابس والأطعمة التي أحبّها وتقديمها إليّ، وحين لم أقتنع بدأ بضربي. حاولت أن أهرب إلى منزل والدتي لكنّ الضرب كان ينتظرني هناك أيضاً. وهكذا خلال عشرة أيام كنت قد تزوّجت.

في الليلة الأولى، وخوفاً من أن ألطّخ السرير بالدماء وضع طليقي فرشة صغيرة على الأرض كي يمارس معي العلاقة الجنسية. ليلتها دخلت والدته معنا إلى الغرفة لتكون شاهدة على عذريتي. شعرت بالخوف والخجل وأردت ان أهرب، لكنّني كنت أعرف أنني سأتعرّض للقتل لو فعلت ذلك. بعدما أنهى زوجي العلاقة، سمح لي بالاستلقاء على السرير. منذ تلك اللحظة علمت أن الطلاق سيكون مصيري. سجنت في غرفتي لسنة كاملة تعرّضت فيها لكل أنواع التعنيف، واستخدمتني عائلة زوجي عاملة في منازلهم، باختصار تعاملوا معي كعاملة منزلية بدون أن يدفعوا لي راتباً شهرياً. زواجي الأوّل انتهى لأنني أردت أن استرجع حريتي.

جاء زواجي الثاني في عامي الـ 18 وكان مبنياً على الحب، أو أقله هذا ما ظننته. في الأشهر الأولى عشت قصّة خيالية ومن ثمّ بدأ الضرب. في الواقع كانت هناك علامات واضحة عن التعنيف الذي سيحلّ علي، مثل طريقة كلام زوجي وأسلوبه بالتعامل معي. انتهى الزواج بعدما ضربني وأنا حامل، لدرجة أنني فقدت وعيي، فقدت الجنين وكنت سأفقد حياتي، وهكذا بدأت المشاكل الجسدية التي صارت لدي، فبسبب الضرب المتكرّر استجدت لدي إعاقة حركية وارتجاج في الدماغ.

وصمني المجتمع كامرأة مطلقة، وبكل صراحة لكي أتجنّب الكلام اليومي وبعد تعرّضي لضغوطات كثيرة عدت وتزوّجت للمرة الثالثة، وأنا اليوم في طور إنهاء زواجي الذي نتج عنه طفل.

لو أنني مستقلة مادياً، لو أنّ عائلتي داعمة، ولو أن طفولتي لم تسلب مني من خلال الزواج، لما وصلت إلى هذه الحال. أرفض أن ألعب دور الضحية، لكنّني كنت ضحية الزواج المبكر الذي بسببه تحدّد مسار حياتي. اليوم، وبعد كل التجارب التي مررت بها أحاول أن أعيد صياغة حياتي، أن اتحمّل مسؤولية نفسي ومسؤولية طفلي، وأن أكون أنا وحدي متحكّمة بمصيري”.

تصرّح المديرة التنفيذية للبرامج في الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين سمر طفيلي أن الاتحاد يلاحق قضايا المرأة المعوقّة في مختلف البرامج والقطاعات، ويمارس العدالة الجندرية بعدّة طرق منها التدخّل، الدعم والتوعية وتؤكّد أن الاحتياجات المتخصّصة والواقع الخاص للمرأة المعوّقة، دائماً ما ينعكس على التخطيط الخاص بالبرامج. تضيف: “منذ ثلاث سنوات ونحن نعمل على نشر التوعية حول قضايا المرأة المعوّقة مع النساء المعوقات أنفسهنّ والنساء غير المعوقات وأيضاً مع الرجال من خلال برنامج إشراك الرجل في قضايا المرأة المعوقة أو من خلال نشر التوعية داخل المجتمع المحلي وأيضاً على نطاق منظّمات المجتمع المدني والبلديات التي هي بتفاعل مباشر ودائم مع الناس”.

فقدت 25 عاما من حياتي...

 

“أخبروني أنني كنت حزينة بسبب الأوضاع العامّة وغلاء المعيشة تحديداً، لذلك ارتفع ضغط دمي، وأصبت بجلطة في يدي. بعدها أصبت بجلطة ثانية أفقدتني قدرتي على الكلام.  أمّا الجلطة الأخيرة فأفقدتني ذاكرتي، وأنا اليوم لم أعد أذكر شيئاً من مدة حياتي الزوجية.

أعيش مع أولادي وزوجي لكنّي لا أذكرهم، وفي مجتمعنا يعتبرون أن المرأة التي بلا ذاكرة هي أيضاً بلا شخصية ومجنونة. لدي ذاكرة واضحة تمتد من طفولتي إلى يوم خطوبتي، لكن كل الأحداث التي تلت ذلك اليوم لا أملك لمحات عنها.

يقولون إنني كنت أعمل في الجمعيات الحقوقية، وكنت أحب النحت وإلقاء الكلمات أمام الحشود. الآن أقضي وقتي بالتفكير، وأطلب من الربّ أن يعيد لي القليل من شخصيتي فالناس بلا رحمة. ينعتونني بالمجنونة ويطلبون من أصدقائي عدم زيارتي باعتبار أنني غير مؤهلة لاستقبال البشر ويجب أن أنعزل. العنف الذي أتعرّض له هو عنف اجتماعي، نابع من أفراد وجماعات. يحاولون وصمي بسبب فقداني لذاكرتي، من دون أن يكترثوا بأنني لم أفقد إدراكي.

أعلم أنني فقدت 25 عاماً من حياتي، لكنّي لم أفقد قدرتي على الإنتاج والتواصل والتعبير عن نفسي. فقدت مهنتي التي لا أذكرها والتي بحسب الأقوال كنت ناجحة جداً فيها، لكنّي لم أفقد أمومتي وحبّي لأفراد عائلتي، الذين يساندونني ويمازحونني قائلين إن طعم طبخي صار أكثر لذة من السابق.

اليوم، وعلى الرغم من كل الصعوبات التي أعاني منها، ومن الأعراف الاجتماعية والتعنيف اللفظي الذي أتعرّض له، وعلى الرغم من أنني خسرت الكثير من السنوات، لكنّي ولدت من جديد أيضًا”.

أحمي ابنتي من الأعراف...

“لجأت إلى لبنان مع ابنتي الكبرى حين كنت في الـ 19 من عمري. كنت قد تزوّجت زواجاً تقليدياً في سوريا لكن من دون تعرّضي لضغوطات خارجية. في قريتي يوجد تقاليد كثيرة منها أن الفتاة تتوقّف عن الدراسة حين تصبح في سن البلوغ، وذلك كي تحمي نفسها من الآخرين بحسب المفاهيم السائدة. ولذلك حرمت من التعليم، وبدأت بالعمل في تنظيف المنازل باكراً.

أنا اليوم والدة لفتاة لديها إعاقة حركية، تبلغ من العمر 16 عاماً، ساعدتها وشجّعتها على إكمال تعليمها كي تحظى بجميع الخيارات الممكنة حين تكبر، تحديداً تلك التي تحتاجها لتواجه المجتمع الذي يوصمها.

زوجي أيضاً تعرض لإصابة في ظهره ورجله، خلال عمله السابق وأصبح معوّقاً حركياً، ولم يعد بإمكانه أن يعمل لأن أصحاب العمل لا يريدون توظيفه. وفي حال قبلوا غالباً ما يكون مكان العمل غير مجهّز لاستقباله.

بسبب الرفض المهني للأشخاص المعوقين في مجتمعنا، أصبحت أنا المعيلة الأساسية في منزلي المكوّن من ثلاثة أبناء وابنة وزوج. همّي الوحيد هو أن أيسّر أمورهم ولذلك فعلت المستحيل كي أحمي ابنتي من الأعراف السائدة، لدرجة أنني كنت أتعرّض للتعنيف اللفظي والنفسي. وحُمّلت ذنب إعاقتها من قبل بعض أفراد العائلة، لكن كل محاولاتي تفشل حين تتعرّض للسخرية أو تُعزل من قبل محيطها. أحياناً، أسمعها وهي تبكي أثناء نومها وأفكّر بيني وبين نفسي، في أن كل المشاكل اليومية التي أواجهها أنا وعائلتي ما كانت لتكون موجودة لو أن المجتمع يحترم الأشخاص المعوقين، ولو أن أماكن العمل تستقبلهم”.

 

تقول المديرة التنفيذية للبرامج في الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين سمر طفيلي: “بعد الأزمة السورية والأزمات الداخلية في لبنان، ظهرت بوضوح حاجة حماية المرأة المعوّقة لأنها كانت الأكثر عرضة للتمييز والتهميش والعنف والاستغلال. فمنذ العام 2016 وتحديداً في منطقة البقاع انطلقت عملية دراسة واقع المرأة المعوّقة المقيمة في لبنان. ما رأيناه على الأرض أدّى إلى تأكيدنا على ضرورة حماية النساء المعوقات داخل وخارج المنزل وحتى في المراكز التي تقدّم الرعاية لهنّ”.

تشرح: قدّم هذا الدعم على أشكال الاستجابة والتقييم والمساعدة. واجهنا خلال عملية الاستجابة مشاكل عدّة منها أنّ حق الوصول إلى المعلومات غير متوفّر لدى المرأة المعوّقة، تالياً هي غير مدركة بإمكانية التبليغ عن الحوادث التي تحصل معها. ثانياً، يوجد تمييز واضح تجاه النساء المعوّقات والأخيرات يعتبرن أن التعنيف هو جزء طبيعي من التمييز الذي يجب أن يخضعن له بسبب الاعاقة، وهذه النقطة تبرز وتتفاوت في مختلف المناطق اللبنانية.

ما نفعله هو أننا نبني ثقة مع المرأة المعوقة، ومن ثم نبدأ بعملية التحقيق من خلال فريقنا المختص ومن ثم تأتي عملية التقييم الخاصة باحتياجاتها ومدى خطورة وضعها، ومن بعدها توضع خطّة إدارة الحالة وتنفّذ على الصعيد النفسي – الاجتماعي، بالاضافة إلى خطّة السلامة.

أحيانا تنخرط المرأة أو الفتاة المعنية بأحد البرامج التي نقودها، أحيانا أخرى تحال قضيّتها إلى منظّمة أخرى كي تحظى بالخدمة المتخصّصة التي تحتاجها، وفي الفترة الأخيرة بدأت تتزايد المتابعات القانونية للحالات إن كان من خلال منظّمة أو جهات أمنية، وطبعاً في هذه الحالات تحال المرأة إلى ملجئ آمن يضمن حمايتها وسلامتها.

أردت حماية عائلتي...

“أنا أمّ طفل لديه إعاقة حركية وزوجة رجل لديه إعاقة حسيّة. أروي قصتي لأقول إن هذا المجتمع غير عادل. حين هربنا من سوريا إلى لبنان، وبعد إصابة زوجي في مكان عمله، لم نتمكّن من تأمين علاجه بسبب شحّ المال، ففقد حاسة البصر وهو اليوم لا يرى سوى القليل من الغباش. وحين عدنا وتمكّنا من تأمين علاجه، كان قد توقّف عن العمل لسنوات وتحمّلت بنفسي كل العبء المعيشي.

حين وصلنا إلى لبنان، أقمنا في بيوت مشتركة من أفراد عائلات أخرى، وذلك وبسبب الفقر وعدم قدرتنا على الانتقال، فكنت أتحمّل التحرّش اللفظي والجسدي من جارنا وأهرب من غرفتنا طوال الوقت نحو منزل آخر. وبسبب خوفي الشديد منه، كنت في إحدى المرات سأرمي بنفسي من السيارة بعدما ركبها. حتّى اللحظة لم أخبر زوجي بالأمر. أولاً، لأنني أردت حماية عائلتي وحمايته من غضبه الذي كان سينتج عن معرفته بأفعال جارنا، وثانياً، لأنني كنت خائفة.

أنواع التحرّش التي تعرّضت لها مختلفة، حتى اليوم كلّما أردت أن أذهب إلى دوام عملي أخاف من ركوب سيارات السرفيس والتنقل بين المنازل وتنظيفها، تحديداً المنازل التي يعرف أصحابها بإعاقة زوجي، لأن معظم الرجال الذين صادفتهم يتحرّشون بي من مبدأ أن زوجي وبسبب إعاقته هو زوج “غير مناسب” أو “غير صالح”، ويردون أن يخلّصوني منه لدرجة أن أحدهم ورّطه بقضية أمنية كي يُسجن.

أريد أن أقول، إن زوجي هو أفضل رجل صادفته، وإن إعاقته لا تقلّل من كونه والد أطفالي وإنساناً عظيماً. ولو أن المجتمع وأماكن العمل تعامله على أساس قدرته وليس إعاقته، لما كنت خضت كل ما خضته ولكان زوجي يعيش حياة عادلة”.

كان يعنّفني ويعنّف ابنتيّ...

“ظننت أن الزواج سيكون خلاصي من عائلتي، تحديداً من أخي الذي حرمني من الدراسة والعمل والتواصل مع العالم الخارجي. وذلك لأني فتاة، وبنظره الفتاة مكانها في المنزل وكلّما كنت اعترض على أعرافه كان يذكّرني بها من خلال الضرب المبرح.

قصد زوجي منزل عائلتي طالباً يدي أكثر من مرّة، وفي كل مرّة كان يتعرّض للرفض من أخي. في النهاية، هربت معه وتزوّجنا بالسرّ، بعد ذلك بدأت المعاناة تظهر بأشكال جديدة. اعتبرت عائلتي أنّني لطّخت شرفها وكرامتها فمُنعت من العودة إلى قريتي وهُدّدت بالقتل. حُمّلت ذنب مرض أمي، وتستمر القطيعة مع عائلتي لأكثر من عقد.

كان الضرب في منزل زوجي “مقبولاً” مقارنة بالضرب الذي اختبرته في منزل عائلتي. وبهذه المعايير التي كنت أملكها اعتبرت أنني محظوظة وأنني نجوت. تلاشت الأحلام بعدما أنجبت ابنتي، فنبذني زوجي وأفراد عائلته الذين أرادوا أن أنجب لهم وريثاً يحمل اسمهم. كما حاول أحد أفراد هذه العائلة إجباري على العمل في “الدعارة” لكي يستفيدوا منّي مادياً، وكلما كنت أرفض كان التعنيف يتفاقم.

في إحدى الليالي، حين كنت حاملاً بابنتي الثانية، ضربني زوجي إلى أن فقدت وعيي فأجريت لي عملية مستعجلة لإنقاذ الطفلة. بعدها بأشهر، دخل إلى المنزل واتهمني بالخروج بدون استئذانه، فأمسك قطعة من الأثاث وضربني بها على رأسي. في تلك الليلة، وبعد ست سنوات من تعرضي للتعنيف الجسدي والنفسي والجنسي، استسلم جسدي وفقدت بصري.

بقيت في منزله كي أحمي ابنتيّ اللتين كان يعنفهما أيضاَ، لدرجة أن الصغيرة كانت تختبئ في الخزانة كي لا يجدها وتبدأ بالبكاء فور سماعها صوت سيارته. بقيت هناك، لأن عائلتي رفضت أن تستقبلني، ولأن الجيران دافعوا عن زوجي وقالوا إنني وقعت من على شرفة المنزل وهكذا حصلت إعاقتي الحسية، ولأني عاجزة اقتصادياً.

ما زلت أذكر ليلة هروبي من طليقي، كان قد قيّدني على السطح وبدأ بالاعتداء علي وتعذيبي جنسياً وجسدياً عبر استخدام أدوات حادّة لم أرها لكنّي شعرت بها على جسدي. لا أعرف كيف وجدت مهرباً، لكنّي خرجت ونجوت. وصرت مدركة لحقوقي ولصوتي الذي يجب أن يُسمع.

اليوم، بعد مرور سنوات على تلك الليلة، ما زلت أبكي كلّما تذكّرتها. أبكي لأنّي لا ألمس ابنتيّ ولا أبصرهما، ولأن التعنيف الجسدي رافقني طوال حياتي فقط لأني ولدت امرأة وأنجبت فتاتين. يومها هربت لأن التعنيف الذي تعرضت له أفقدني بصري ولأني لو بقيت كنت سأفقد حياتي التي سأحتاجها للحفاظ على حياة ابنتيّ”.

تفيد سمر طفيلي بأن الدعم النفسي الاجتماعي الجماعي يؤمّن من خلال برنامج تمكين للمهارات الحياتية، وذلك عبر تفعيل أو تقديم الدعم الاجتماعي اللازم كي تصير المرأة المعوّقة قادرة على تمييز التعنيف والتبليغ عنه، وهكذا تصبح هي بدورها داعمة لنفسها ولغيرها عبر اكتسابها القدرة على حماية نفسها ومحيطها. وتؤكّد أن ما يسعى الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً على ترسيخه في الوقت الحالي هو إشراك وتفعيل المرأة المعوقة من الناحية الحقوقية وتدريبها لتصبح مشاركة فاعلة على الأرض في قضايا وكي تتحوّل هي نفسها من ناجية إلى مناصرة لحقوق النساء المعوّقات.

سخروا منّي ومن إعاقتي...

“تعرّضت للضرب أكثر من مرّة على أيدي أفراد عائلتي، تحديداً أخي الصغير الذي يغضب منّي ولا يحب إعاقتي، على الرغم من أنه هو نفسه لديه إعاقة حركية. قبل مدّة سألني: لماذا رجلك اليمنى شكلها غريب؟ قلت له إننا نشبه بعضنا ولا داعي لأن يسخر منّي.

لدي إعاقة في ظهري ورجلي اليمنى منذ الولادة، وبسببها لا أتمكنّ أحيانًا من ممارسة المهمات الحياتية اليومية، مثل ارتداء ملابسي أو الدخول إلى الحمّام. لكنّ والدتي تدعمني وتساعدني. تؤلمني رجلي كثيراً كلّما حاولت أن أمشي، لذلك لا ألعب في باحة المدرسة مع رفاقي، لكنّ رجلي ليست أكثر ما يزعجني بل التبوّل اللاإرادي الناتج من إعاقتي.

في إحدى المرات، لم تسمح لي المعلمة بالذهاب إلى الحمّام، فتبوّلت على نفسي في الصف أمام زملائي وزميلاتي، يومها سخروا منّي ومن إعاقتي. وبسبب هذه الحادثة تغيّبت عن المدرسة لمدّة أسبوع كامل إلى أن اتصلت المديرة وسألت عن أسباب غيابي. في البداية قالت لها والدتي إنني مريضة، ثمّ عادت وأخبرتها الحقيقة. ولم أعد إلا حين اتخذت الإجراءات اللازمة بحق كل من سخر منّي.

اليوم، لم أعد أخاف أو أخجل، بل تقبّلت المشاكل الجسدية التي أعاني منها. بالطبع أتمنّى أن أشفى، والأطباء يقولون بوجود أمل على الرغم من صعوبة حالتي. في المدرسة، أصبحت من المتفوقات لأنني أريد أن أثبت نفسي من خلال علاماتي، وأقول إن إعاقتي لا تحدّد كل تفاصيل حياتي. كما أنني صرت أدافع عن نفسي وأرد على كل يسخر منّي عوضاً عن البكاء. لدي الكثير من الصديقات اللواتي أحبّهن وأتمنّى لو أن كل الأشخاص يتعاملون معي باحترام”.

 

عائلتي اعتبرتني امرأة "ناقصة"...

“فور ولادتي وظهور إعاقتي الحركية، احتوتني والدتي بالكامل لدرجة أنها عزلتني عن العالم الخارجي. لذلك، حين توفّيت وجدت نفسي غير قادرة على الاندماج في المجتمع ذي عقلية ذكورية، بعدما حُرمتُ من المساعدة التي كنت أتلقّاها منها. حاولت أن أعيش حياتي بأساليبي الخاصّة على الرغم من كل العوائق القابعة أمامي ومنها التعنيف الجسدي.

يعتمد شقيقي التعنيف الجسدي كوسيلة لترسيخ قراراته التي أعارضها. مع الوقت، اعتدت على الضرب وصرت أواجهه بالصراخ لكنّي حتّى اللحظة لم أعتد على التعنيف اللفظي أو المعنوي. في إحدى المرّات وأثناء حديثي مع صديقي عبر الهاتف، دخل شقيقي إلى المطبخ وانهال عليّ بالضرب. خرجت يومها إلى الشارع والدماء تسيل على وجهي، ولم أعد إلا في المساء. لو كنت مستقلّة ماديًا، أو لو ملكت مكانًا آمنًا، لما عُدت إلى المنزل.

حاولت أن أتزوّج أكثر من مرّة، لكن عائلتي تعاملني كأنني “امرأة ناقصة” لا تستحق الحبّ أو أن تتشارك الحياة مع رجل. واجهتُ المعارضة نفسها حين قرّرت أن أعمل، فلم يتم دعمي ماديًا أو معنويًا، لكنّي تمكّنت من إنشاء عملي الخاص ببيع الألبسة والاستقلال اقتصاديًا إلى أن حلّ الانهيار الاقتصادي وأعادني إلى المنزل حيث أخضع لسلطة شقيقي المادية.

لم أطالب يوماً سوى بحقّي بالحياة، بالخروج إلى المجتمع بالحب وباحترام جسدي. لا أعلم حتّى اللّحظة إن كانت مشكلة عائلتي معي متعلّقة بإعاقتي او أن التعنيف لديهم حق يمارس فقط لأني امرأة، لكنّي أعلم أنهم يعاملونني بفوقية، وأنني فاقدة القدرة على الدفاع عن نفسي جسديًا.

أجلس اليوم وأحكي قصّتي مرتدية كعبي العالي وفستاني الأصفر. قد تكون حركتي أبطأ من غيري وكلماتي متلعثمة وقد أبكي، لكن ليس لأني ضعيفة بل لأن المجتمع لا يتقبّل أن النساء لديهن حق المطالبة بحريتهن من جميع النواحي. وأنا نفسي لم أكن أعرف ذلك إلا بعدما تلقّيت المساعدة اللازمة من الجهات المختصّة.

أنا المرأة الخمسينية التي تغلّبت على مرض السرطان مرتين، أُجبرت على العودة إلى منزل عائلتي الذي أتعرّض فيه للتعنيف، وذلك لأن الحياة في الخارج لم تستقبلني ولم تحمِني ولأن خياراتي شبه معدومة. لو أنّي أملك حرّيتي، لتركت كل من أعرفهم وانتقلت للعيش في مكان خاصّ بي حيث سأعمل وأُنتج وأتزوج وأستقبل أصدقائي لأتكلم معهم بكل المواضيع التي تدور في خاطري”.