المفكرة القانونية – لور أيوب
كثيرة هي القصص التي يمكن أن نرويها عن واقع الأشخاص المعوّقين في لبنان، هم الّذين صدر لهم قانون خاص عام 2000 ينصّ على حقّهم في العمل والعلم والتنقّل والطبابة وغيرها من الحقوق التي لم يتحقق منها شيء. واليوم بعد مرور عشرين عاماً على صدور القانون وبالطبع عدم تنفيذه هناك شريحة كاملة لا تزال تخوض معاناة التهميش وتصطدم اليوم بأزمة اقتصاديّة تُقلّص فرص عيشها حياة كريمة.
يلجأ العديد من الأشخاص المعوّقين إلى العمل الحر لكسب الرزق كحال محمد ياسين (41 عاماً) وهو رجل مقعد وأب وزوج يسعى لتأمين لقمة عيشه وعيش عائلته. كان محمد وشقيقاه المقعدان أيضاً ورجل رابع لديه إعاقة في يده يتخذون من الكورنيش البحري في طرابلس مكاناً لركن أكشاك لبيع غزل البنات والفريسكو و”السناكات” السريعة. ولكن في عام 2018 قامت القوى الأمنية بحملة لإزالة الأكشاك عن الكورنيش بحجة مخالفتها للنظام العام وتشويهها الكورنيش.
يصف محمد في حديث إلى “المفكرة القانونية” كيف ضاقت به السبل منذ منعه من البيع على الكورنيش، ويقول: “بعد منعنا من البيع على الكورنيش بدأنا ننتقل من مكان إلى آخر، لكن دائماً كان هناك من يرفع عريضة للبلدية لمنعنا من البيع. وفي أواخر عام 2019 قامت القوى الأمنية بحجز الأكشاك بحجة أننا نخالف النظام العام”. ويتابع أنّه “قبل عام حصلنا على ترخيص من وزارة الداخليّة للعمل في البلديّة بدوام جزئي إلّا أن رئيس البلديّة السابق رفض إعطاءنا الوظائف”. ويفقد محمد اليوم الأمل لإيجاد فرصة عمل في بلد يكاد يخلو من فرص العمل للأشخاص المعوّقين. ورغم أنّه استطاع قبل بضعة أيام استعادة الأكشاك من الاحتجاز، إلّا أن معاناته هو ورفاقه وشقيقاه اليوم تكمن في عدم تمكّنهم من إيجاد أي مكان لوضع الأكشاك لمعاودة البيع. ويقول محمد: “استعدنا أكشاكنا ولكن أين سنضعها لنبيع. ومن سيأتي لشراء الفريسكو وغزل البنات في مكان آخر غير الكورنيش البحري؟”.
محمد ياسين الذي يعيش في منزل بسيط في أحد أحياء المنية الفقيرة، لم تقف معاناته عند خسارة عمله بل أتته المصيبة من سقف منزله الذي انهار قبل ثلاثة أشهر والذي قدّرت دائرة الهندسة في البلدية كلفة ترميمه بـ15 مليون ليرة ليس باستطاعته تأمينها. وحينها حذّرته البلدية من عدم السكن في المنزل. ويقول: “لم يساعدنا أحد لنقوم بالترميم، وانتقلنا إلى منزل جديد بمساعدة مجموعة أشخاص أمنّوا لنا تبرّعات لتسديد أجرة المنزل الجديد لأربعة أشهر وقد انقضى منها شهران ونصف”.
شركات ترفض توظيف الأشخاص المعوّقين قبل حتى مقابلتهم
تحاول السيدة دوريس زعرور (48 عاماً) البحث عن وظيفة منذ عام تقريباً: “كلّما أرسلت سيرتي الذاتية إلى شركة ما، أواجه الرفض مباشرة”. وعلى الرغم من أنّها تتمتع بخبرة 18 عاماً في مجال العمل على الهاتف، وتتقن اللغتين الانكليزية والفرنسية إلى جانب العربيّة، إلّا أنّها تواجه الرفض التلقائي عندما ترسل سيرتها الذاتية إلى المؤسسات التي تطلب موظفين. وصحيح أنّ السيدة دوريس تذكر في السيرة الذاتية مسألة إصابتها بالشلل النصفي في يدها ورجلها اليُسرى، إلّا أنها تؤكّد أنّ الوظائف التي تتقدم إليّها لا يُعيقها الشلل. وتتحدث عن الوظيفة التي عملت فيها لـ18 عاماً في أحد مطاعم بيروت، حيت تولّت مهمّة تلقّي المكالمات لطلبات التوصيل “ديلفيري”: “لم تكن هذه هي الوظيفة التي أطمح للعمل فيها، فأنا درست في صغري التزيين النسائي، إنما رغم ذلك، كنت ناجحة وملتزمة بعملي”. تلفت السيدة دوريس إلى المقدّرات العالية للشخص المعوّق الذي تصفه بأنه “أكثر التزاماً من غيره في الوظيفة ويسعى بكل ما لديه من قدرات ليثبت أنّه قادر على العمل” تحدّياً للوصمة التي تلاحقه أينما ذهب باعتباره غير قادر على العمل. وتلفت إلى أنّه خلال عملها في المطعم، “كنت أواظب على العمل بشكل يومي بدون أن آخذ حتى عطلة مرضية”.
وتروي بأنّ تأزّم الوضع الاقتصادي في البلاد دفع الشركة إلى التضييق على بعض الموظفين بهدف تخفيف أعدادهم، فلم تحتمل السيدة دوريس هذا الضغط، وقررت التوقف عن العمل ممّا حرمها الاستفادة من تعويض الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، عدا عن خسارة مدخولها الشهري الذي ساعدها للتمتّع بالاستقلالية.
لم تبادر السيدة دوريس إلى تقديم طلب توظيف لدى المؤسسة الوطنية للاستخدام، علماً أنّ المؤسسة معنيّة وفقًا للقانون 220/2000 بإيجاد وظائف للأشخاص المعوّقين وفقاً للمادة 70 منه. وتقول إنّها لم تكن تعرف بوجود المؤسسة أساساً وهذا إنّ دلّ على شيء فعلى تقصير الدولة تجاه المؤسسة التي من شأنها أن تؤدي دوراً هاماً في تأمين فرص العمل.
غياب المدارس الدامجة يحول دون إكمال المعوّق تعليمه
لين خالد، شابّة في عمر العشرين أثّر تهميش الأشخاص المعوّقين في لبنان بشكل كبير على مرحلة طويلة من حياتها بخاصة من ناحية عدم تجهيز المدارس لتلائم الأشخاص المعوّقين. ولين التي تتنقل على كرسي متحرّك، كان والدها طيلة فترة الدراسة يحملها يومياً إلى الطابق الثالث لتصل إلى صفّها لعدم وجود مصعد. وتقول لين لـ”المفكرة”: “حين كان جرس الفرصة يرنّ، كان زملائي يتوجّهون إلى الملعب للهو والمرح وأنا كنت أبقى جليسة الكرسي في الصف أتفرج عليهم من النافذة”. بقيت لين تنظر من النافذة إلى الملعب حتى صف البريفيه، ولم تنزل إلى الفرصة إلّا في حالات استثنائية مثل الاحتفالات الرسمية التي تنظّمها المدرسة، تقول: “كان 4 من رفاقي يحملونني إلى الملعب وكانت هذه من المرّات النادرة التي أشاركهم الفرصة”.
لين التي تعيش وعائلتها في البقاع، تؤكد لـ “المفكرة” بأنّ عائلتها بحثت كثيراً عن مدارس دامجة في المنطقة فلم تجد ولا أي واحدة تتمتع بالمواصفات المطلوبة لتتحرك فيها بحرّية وبمفردها. وتشير آسفةً إلى أنها اضطرت مكرهة إلى ترك الدراسة بعد البريفيه بسبب عدم قدرة والدها صحّياً على الاستمرار بحملها صعوداَ إلى الصف. تقول: “حرمني عدم تطبيق القانون 220 من التمتّع بحياة اجتماعيّة مثل أي مراهقة من عمري، لم أتمكّن من اللعب ولا التنقّل بحرية”. وبعد مرور كلّ هذه السنوات، تقول وهي ممتنّة لأنّها تمكّنت من الاستمرار رغم كل العوائق التي أمامها بفضل عائلتها التي قدّمت لها كل ما بوسعها، وتقول إنّها تسامح زملاءها الّذين اختاروا عدم اللعب معها وتتفهّمهم.
في هذه المرحلة، وفي ظلّ الحجر المنزلي تقول لين بأنّ ثمّة “فرصة ليعرف الجميع ما يعني أن تُكره على البقاء في المنزل، فنحن الأشخاص المعوّقون محرومون من التنقّل ونبقى حبيسي المنزل بسبب حرماننا من الأرصفة والنقل العام الدامج”. قبل التعبئة العامّة كانت لين تجد متنفّساً لها في “متندى المقعدين” في زحلة، هناك تابعت دورات تعليمية في مجالات عدّة، تقول: “هنا وجدت مساندة كبيرة، فهناك لم يتركني زملائي وحاولوا مساعدتي إكمال دراستي”. وتنتظر معاودة فتح المنتدى بحماس لاستئناف الدورات التدريبية التي تخضع لها هناك.
النجاح في امتحانات مجلس الخدمة المدنية لا يضمن التوظيف
عمل خضر خروبي (31 عاماً) وهو مصاب بنوع من الإعاقة الحركية ويسير على عكازين في مجال الصحافة بعد تخرّجه من كلية العلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة، لكن بعد إغلاق القسم الذي كان يعمل فيه في جريدة لبنانّية وبسبب تراجع فرص العمل في الإعلام، اندفع إلى البحث عن عمل في مجالات مختلفة، منها الترجمة وإدخال البيانات. وحين ضاقت فيه السبل أكثر، عمل في فندق في مجال خدمة الزبائن. وخاض خضر امتحان مجلس الخدمة المدنيّة عام 2017 ونجح بتفوق إلّا أنّ إمكانيّة حصوله على الوظيفة هو ومئات من الناجحين اصطدم بالتجاذبات السياسيّة التي حالت دون صدور مرسوم توظيفهم لاعتبارات طائفية.
يقول خضر لـ”المفكرة” إنّ “القانون 220 الذي صدر قبل 20 عاماً ولم ينفّذ منه شيء، هو أفكار عامّة تتكلم عن حقوق الأشخاص المعوّقين وتشوبه ثغرات لناحية آليات تنفيذه، فبعض بنوده لا تنفذ إلّا بمراسيم تطبيقية ما يحول دون ترجمته على أرض الواقع”. ويرى أنّ “حقوق الأشخاص المعوّقين غائبة عن الإعلام والرأي العام، ونادراً ما نجد اهتماماً إعلامياً بقضيتنا إلّا في بعض المناسبات”.
قانون ولد ميتاً
وفي هذه الفترة من كل عام، تعيد الجمعيّات المعنيّة بحقوق الأشخاص المعوّقين التذكير بضرورة تنفيذ بنود القانون. وهذا العام استبدلت الجمعيات التحرّك على الأرض بحملة “معاً ضد تهميش فئة الأشخاص المعوقين في لبنان” واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي شارك فيها أشخاص معوّقون عبر تحميل فيديوهات وصور لإيصال صوتهم بدعوة من مرصد حقوق الأشخاص المعّوقين والاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً.
في هذا السيّاق تلفت رئيسة اتحاد المقعدين والمعوقين حركياً سيلفانا لقيس في حديث لـ “المفكرة” إلى أنّ “الحرمان يطال الأشخاص المعوّقين من العمل والسكن والطبابة والعلم”. وتلفت إلى أنّ “لا الطرقات مجهّزة للتنقل ولا المدارس تعتمد معايير دامجة، إضافة إلى أنّ الحرمان من العمل وتعويض البطالة يضاعف مظاهر الفقر بين الأشخاص المعوّقين، حتى بات وجود فرد معوّق في عائلة يعتبر مؤشر فقر”.
وتُلقي لقيس الضوء على المادة 74 من القانون التي تلزم القطاع الخاص بكوتا توظيف بنسبة 3 بالمئة للمؤسسات التي يزيد عدد موظفيها عن 60 أجيراً. وفي حال عدم التزام أرباب العمل بالكوتا فهي ملزمة دفع غرامة مالية قدرت بضعفَي الحد الأدنى للأجور عن كل شخص معوّق غير مستخدم، يتم تسديدها لوزارة العمل. ويقع على عاتق الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التحقق من حسن تطبيق موجب أرباب العمل بتوظيف المعوقين، وفي حال تبيّن عدم توظيف المؤسسة لأشخاص معوقين، فلا يحصل رب العمل على براءة ذمة مالية.
لكن تلكّؤ الإدارة في متابعة حسن تطبيق القانون بحسب اللقيس، أبقاه حبراً على ورق بحيث لم يقم الضمان الاجتماعي بمراقبة موضوع توظيف المعوّقين في المؤسسات، وبالتالي لم يتم جباية الغرامات. واصطدمت مسألة الغرامات بالخلافات بين وزارة العمل ووزارة المال، فالأخيرة اعتبرت أن جباية الغرامات شأنها وحدها ولم يتم معالجة هذا الأمر مما حال دون إنشاء الصندوق الذي يتلقّى هذه الغرامات. وكان من المفترض أن يتم استخدام هذه الغرامات لتمويل تعويض البطالة، فدخل تطبيق المادة 74 في حلقة مفرغة بسبب الصراعات بين المعنيين وبسبب تهميش القضية. فحرم بالتالي الأشخاص المعوّقون في لبنان من العمل ومن تعويض البطالة.
وتوضح اللقيس أنّه “بالنسبة للمؤسسة الوطنية للاستخدام التي تعد من صلاحياتها تأمين وظائف للأشخاص المعوقين لا يوجد فيها موظف متخصّص بشؤون الاختلاف، وهو موظف عليه أنّ يكون متخصصاً بالمعايير الدامجة ويقوم عمله على تأمين مواصفات التنوّع، إضافة إلى خلوّها من متخصص بإجراء المقابلات مع الأشخاص المعوقين”. إضافة إلى أنّ “الموقع الالكتروني الخاص بالمؤسسة الوطنية للاستخدام غير مرن بالنسبة لبعض الإعاقات مثل المكفوفين”.